فصل: تفسير الآيات رقم (48 - 52)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏48 - 52‏]‏

‏{‏فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏فَاصْبِرْ‏}‏ يا محمد على أذى قومك لك وتكذيبهم؛ فإن الله سيحكم لك عليهم، ويجعل العاقبة لك ولأتباعك في الدنيا والآخرة، ‏{‏وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ‏}‏ يعني‏:‏ ذا النون، وهو يونس بن متى، عليه السلام، حين ذهب مُغَاضِبًا على قومه، فكان من أمره ما كان من ركوبه في البحر والتقام الحوت له، وشرود الحوت به في البحار وظلمات غمرات اليم، وسماعه تسبيح البحر بما فيه للعلي القدير، الذي لا يُرَدّ ما أنفذه من التقدير، فحينئذ نادى في الظلمات‏.‏ ‏{‏أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 87‏]‏‏.‏ قال الله ‏{‏فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 88‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 143، 144‏]‏ وقال هاهنا‏:‏ ‏{‏إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ‏}‏ قال ابن عباس، ومجاهد، والسدي‏:‏ وهو مغموم‏.‏ وقال عطاء الخراساني، وأبو مالك‏:‏ مكروب‏.‏ وقد قدمنا في الحديث أنه لما قال‏:‏ ‏{‏لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ‏}‏ خرجت الكلمة تَحُفّ حول العرش، فقالت الملائكة‏:‏ يا رب، هذا صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة‏.‏ فقال الله‏:‏ أما تعرفون هذا‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ هذا يونس‏.‏ قالوا‏:‏ يا رب، عبدك الذي لا يزال يرفع له عمل صالح ودعوة مجابة‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قالوا‏:‏ أفلا ترحم ما كان يعمله في الرخاء فتنجيه من البلاء‏؟‏ فأمر الله الحوت فألقاه بالعراء؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ‏}‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا ينبغي لأحد أن يقول‏:‏ أنا خير من يونس بن متى‏"‏‏.‏

ورواه البخاري من حديث سفيان الثوري وهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ‏}‏ قال ابن عباس، ومجاهد، وغيرهما‏:‏ ‏{‏لَيُزْلِقُونَكَ‏}‏ لينفذونك بأبصارهم، أي‏:‏ ليعينونك بأبصارهم، بمعنى‏:‏ يحسدونك لبغضهم إياك لولا وقاية الله لك، وحمايته إياك منهم‏.‏ وفي هذه الآية دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها حق، بأمر الله، عز وجل، كما وردت بذلك الأحاديث المروية من طرق متعددة كثيرة‏.‏

ح - حديث أنس بن مالك، رضي الله عنه‏:‏ قال أبو داود‏:‏ حدثنا سليمان بن داود العَتَكي، حدثنا شريك‏(‏ح‏)‏، وحدثنا العباس العَنْبَريّ، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا شريك، عن العباس بن ذَرِيح، عن الشعبي -قال العباس‏:‏ عن أنس- قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا رقية إلا من عين أو حُمة أو دم لا يرقأ‏"‏‏.‏ لم يذكر العباس العين‏.‏ وهذا لفظ سليمان‏.‏

حديث بُرَيدة بن الحُصَيب، رضي الله عنه‏:‏ قال أبو عبد الله ابن ماجة‏:‏ حدثنا محمد بن عبد الله بن نُمَير، حدثنا إسحاق بن سليمان، عن أبي جعفر الرازي، عن حُصَين، عن الشعبي، عن

بُرَيدة بن الحصيب قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا رقية إلا من عين أو حُمة‏"‏‏.‏

هكذا رواه ابن ماجة وقد أخرجه مسلم في صحيحه، عن سعيد بن منصور، عن هشيم، عن حُصَين بن عبد الرحمن، عن عامر الشعبي، عن بريدة موقوفًا، وفيه قصة وقد رواه شعبة، عن حصين، عن الشعبي، عن بريدة‏.‏ قاله الترمذي وروى هذا الحديث الإمام البخاري من حديث محمد بن فضيل، وأبو داود من حديث مالك بن مِغْول، والترمذي من حديث سفيان بن عيينة، ثلاثتهم عن حصين، عن عامر عن الشعبي، عن عمران بن حُصَين موقوفًا‏.‏

حديث أبي جندب بن جنادة‏:‏ قال الحافظ أبو يعلى الموصلي، رحمه الله‏:‏ حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرعرة بن البِرِند السامي، حدثنا ديلم بن غَزوان، حدثنا وهْب بن أبي دبي، عن أبي حرب عن أبي ذر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن العين لتولع الرجلَ بإذن الله، فيتصاعد حالقا، ثم يتردى منه‏"‏ إسناده غريب، ولم يخرجوه‏.‏

حديث حابس التميمي‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الصمد، حدثنا حرب، حدثنا يحيى بن أبي كثير، حدثني حَيَّة بن حابس التميمي‏:‏ أن أباه أخبره‏:‏ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏لا شيء في الهام، والعين حق، وأصدق الطيَرَة الفَألُ‏"‏‏.‏

وقد رواه الترمذي عن عمرو بن علي، عن أبي غسان يحيى بن كثير، عن علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، به ثم قال غريب‏.‏ قال وروى شيبان، عن يحيى بن أبي كثير، عن حَيَّة بن حابس، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قلت‏:‏ كذلك رواه الإمام أحمد، عن حسن بن موسى وحُسَين بن محمد، عن شيبان، يحيى بن أبي كثير، عن حَيَّة، حدثه عن أبيه، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لا بأس في الهام، والعين حق، وأصدق الطيرة الفأل ‏"‏‏.‏

حديث ابن عباس‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الله بن الوليد، عن سفيان، عن دُوَيد، حدثني إسماعيل بن ثوبان، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏العين حق، العين حق، تستنزل الحالق‏"‏ غريب‏.‏

طريق أخرى‏:‏ قال مسلم في صحيحه‏:‏ حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، أخبرنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا وُهَيب، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏العين حق، ولو كان شيء سَابَقَ القَدَرَ سَبَقَت العين، وإذا اغْتُسلتم فاغسلوا‏"‏‏.‏ انفرد به دون البخاري‏.‏

وقال عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن منصور، عن المِنْهال بن عمرو، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعَوِّذ الحسن والحسين، يقول‏:‏ ‏"‏أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهَامَّة، ومن كل عين لامَّة‏"‏، ويقول هكذا كان إبراهيم يُعَوِّذ إسحاق وإسماعيل، عليهما السلام‏"‏‏.‏ أخرجه البخاري وأهل السنن من حديث المنهال، به حديث أبي أمامة أسعد بن سهل بن حنيف، رضي الله عنه‏:‏ ‏"‏قال ابن ماجة‏:‏ حدثنا هشام بن عمار، حدثنا سفيان، عن الزهري، عن أبي أمامة ابن سهل بن حُنَيف قال‏:‏ مر عامر بن ربيعة بسهل بن حُنَيف، وهو يغتسل، فقال‏:‏ لم أر كاليوم ولا جلدَ مخبأة‏.‏ فما لبث أن لُبِطَ به، فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له‏:‏ أدرك سهلا صريعًا‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏من تتهمون به‏؟‏‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ عامر بن ربيعة‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏علام يقتل أحدكم أخاه‏؟‏ إذا رأى أحدكم من أخيه ما يُعجبه فَلْيَدعُ له بالبركة‏"‏‏.‏ ثُم دعا بماء فأمر عامرًا أن يتوضأ فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين، وركبتيه، ودَاخِلة إزاره، وأمره أن يصب عليه‏.‏ قال سفيان‏:‏ قال مَعْمَر، عن الزهري‏:‏ وأمر أن يكفَأ الإناء من خلفه‏.‏

وقد رواه النسائي، من حديث سفيان بن عيينة ومالك بن أنس، كلاهما عن الزهري، به‏.‏ ومن حديث سفيان بن عيينة أيضًا عن معمر، عن الزهري، عن أبي أمامة‏:‏ ويكفَأ الإناء من خلفه‏.‏ ومن حديث ابن أبي ذئب عن الزهري، عن أبي أمامة أسعد بن سهل بن حُنَيف، عن أبيه، به‏.‏ ومن حديث مالك أيضًا، عن محمد بن أبي أمامة بن سهل، عن أبيه، به‏.‏

حديث أبي سعيد الخدري‏:‏ قال ابن ماجة‏:‏ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا عباد، عن الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من أعين الجان وأعين الإنس‏.‏ فلما نزل المعوذتان أخذ بهما وترك ما سوى ذلك‏.‏ ورواه الترمذي والنسائي من حديث سعيد بن إياس أبي مسعود الجُرَيري، به وقال الترمذي‏:‏ حسن‏.‏

حديث آخر عنه‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، حدثني أبي، حدثني عبد العزيز بن صُهيب، حدثني أبو نضرة، عن أبي سعيد‏:‏ أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ اشتكيت يا محمد‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم‏"‏‏.‏ قال باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس وعين يشفيك، باسم الله أرقيك‏.‏

ورواه عن عفان، عن عبد الوارث، مثله‏.‏ ورواه مسلم وأهل السنن -إلا أبا داود- من حديث عبد الوارث، به‏.‏

وقال الإمام أحمد أيضًا‏:‏ حدثنا عفان، حدثنا وهيب، حدثنا داود، عن أبي نَضرة، عن أبي سعيد -أو‏:‏ جابر بن عبد الله؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتكى، فأتاه جبريل فقال‏:‏ باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من كل حاسد وعين والله يُشفيك‏.‏

ورواه أيضًا، عن محمد بن عبد الرحمن الطفاوي، عن داود، عن أبي نَضرة، عن أبي سعيد به‏.‏

قال أبو زُرْعَة الرازي‏:‏ روى عبد الصمد بن عبد الوارث، عن أبيه، عن عبد العزيز، عن أبي نضرة، وعن عبد العزيز، عن أنس، في معناه، وكلاهما صحيح‏.‏

حديث أبى هُرَيرة‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا مَعْمَر، عن هَمَّام بن مُنَبِّه قال‏:‏ هذا ما حدثنا أبو هُرَيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن العين حق‏"‏‏.‏ أخرجاه من حديث عبد الرزاق‏.‏

وقال ابن ماجة‏:‏ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا إسماعيل بن عُلَيَّة، عن الجُرَيري، عن مُضَارب بن حَزن، عن أبي هُرَيرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏العين حق‏"‏‏.‏تفرد به‏.‏ ورواه أحمد، عن إسماعيل بن عُلَيَّة، عن سعيد الجريري، به‏.‏

وقال الإمام أحمد حدثنا ابن نمير، حدثنا ثور -يعني ابن يزيد- عن مكحول، عن أبي

هُرَيرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏العين حق، ويحضُرها الشيطانُ، وحسد ابن آدم‏"‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا خلف بن الوليد، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن قيس‏:‏ سُئل أبو هُرَيرة‏:‏ هل سمعت رسول الله يقول‏:‏ الطيرة في ثلاث‏:‏ في المسكن والفرس والمرأة‏؟‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ إذًا أقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل‏!‏ ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏أصدق الطيرة الفألُ، والعين حق‏"‏‏.‏

حديث أسماء بنت عُمَيس‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عُروةَ بن عامر، عن عُبَيد بن رفاعة الزُرقي قال‏:‏ قالت أسماء‏:‏ يا رسول الله، إن بني جعفر تصيبهم العين، أفأسترقي لهم‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم، فلو كان شيء يسبق القدرَ لسبقته العين‏"‏‏.‏

وكذا رواه الترمذي وابن ماجة من حديث سفيان بن عيينة، به ورواه الترمذي أيضًا والنسائي، من حديث عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن أيوب، عن عمرو بن دينار، عن عُرْوَة بن عامر، عن عُبَيد بن رفاعة، عن أسماء بنت عميس، به وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏

حديث عائشة، رضي الله عنها‏:‏ قال ابن ماجة‏:‏ حدثنا علي بن أبي الخَصِيب، حدثنا وَكِيع، عن سفيان، ومِسْعَر، عن معبد بن خالد، عن عبد الله بن شَدَّاد، عن عائشة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن تسترقي من العين‏.‏

ورواه البخاري عن محمد بن كثير، عن سفيان، عن معبد بن خالد، به‏.‏ وأخرجه مسلم من حديث سُفيانَ ومِسْعَر، كلاهما عن معبد، به ثم قال ابن ماجة‏:‏ حدثنا محمد بن بشار، حدثنا أبو هشام المخزومي، حدثنا وُهَيب، عن أبي واقد، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏استعيذوا بالله فإن النفس حق‏"‏‏.‏ تفرد به

وقال أبو داود‏:‏ حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت‏:‏ كان يؤمر العائن فيتوضأ ويغسل منه المَعين‏.‏

حديث سهل بن حُنَيف‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حُسَين بن محمد، حدثنا أبو أويس حدثنا الزهري، عن أبي أمامة بن سَهل بن حُنَيف‏:‏ أن أباه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وساروا معه نحو مكة، حتى إذا كانوا بشعب الخَرَار -من الجحفة- اغتسل سهلُ بن حُنَيف -وكان رجلا أبيض حَسن الجسم والجلد- فنظر إليه عامر بن ربيعة، أخو بني عدي بن كعب، وهو يغتسل، فقال‏:‏ ما رأيت كاليوم ولا جلد مُخَبَّأة‏.‏ فلُبِطَ سهل، فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له‏:‏ يا رسول الله، هل لك في سهل‏.‏ والله ما يرفع رأسه ولا يُفيق‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏هل تتهمون فيه من أحد‏؟‏‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ نظر إليه عامر بن ربيعة‏.‏ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عامرا، فتغيظ عليه، وقال‏:‏ ‏"‏علام يقتل أحدكم أخاه، هلا إذا رأيت ما يعجبك بَركت‏؟‏‏"‏‏.‏ ثم قال له‏:‏ ‏"‏اغتسل له‏"‏ -فغسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه ودَاخلَة إزاره في قَدح- ثم صُب ذلك الماء عليه‏.‏ يَصُبَه رجل على رأسه وظهره من خلفه، ثم يكفأ ‏.‏ القدح وراءه‏.‏ ففعل ذلك، فراح سهل مع الناس، ليس به بأس‏.‏

حديث عامر بن ربيعة‏:‏ ‏"‏قال الإمام أحمد في مسند عامر‏:‏ حدثنا وَكِيع، حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن عيسى، عن أمَيّة بن هند بن سهل بن حُنَيْف، عن عبد الله بن عامر قال‏:‏ انطلق عامر بن ربيعة وسهل بن حنيف يريدان الغسل، قال‏:‏ فانطلقا يلتمسان الخمرَ -قال‏:‏ فوضع عامر جُبَّة كانت عليه من صوف، فنظرت إليه فأصبته بعيني فنزل الماء يغتسل‏.‏ قال‏:‏ فسمعت له في الماء فرقعة، فأتيته فناديته ثلاثا فلم يجبني‏.‏ فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته‏.‏ قال‏:‏ فجاء يمشي فخاض الماء كأني أنظر إلى بياض ساقيه، قال‏:‏ فضرب صدره بيده ثم قال‏:‏ ‏"‏اللهم اصرف عنه حرها وبردها ووصبها‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فقام‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذا رأى أحدكم من أخيه، أو من نفسه أو من ماله، ما يعجبه، فَليُبَرِّك، فإن العين حق‏"‏‏.‏

حديث جابر‏:‏ قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده‏:‏ حدثنا محمد بن مَعْمَر، حدثنا أبو داود، حدثنا طالب بن حبيب بن عمرو بن سهل الأنصاري -ويقال له‏:‏ ابن الضَجِيع، ضجيع حمزة، رضي الله عنه- حدثني عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله، عن أبيه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أكثر من يموت من أمتي بعد كتاب الله وقضائه وقدره بالأنفس‏"‏‏.‏ قال البزار‏:‏ يعني العين‏.‏ قال ولا نعلم يروى هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد‏.‏ قلت‏:‏ بل قد روي من وجه آخر عن جابر؛ قال الحافظ أبو عبد الرحمن محمد بن المنذر الهروي -المعروف بشَكَّر- في كتاب العجائب، وهو مشتمل على فوائد جليلة وغريبة‏:‏ حدثنا الرهاوي، حدثنا يعقوب بن محمد، حدثنا علي بن أبي علي الهاشمي، حدثنا محمد بن المُنكَدر، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏العين حق، لتُورِد الرجل القبر، والجمل القِدر، وإن أكثر هلاك أمتي في العين‏"‏‏.‏

ثم رواه عن شعيب بن أيوب، عن معاوية بن هشام، عن سفيان، عن محمد بن المنكدر، عن جابر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏قد تُدخل الرجلَ العينُ في القبر، وتدخل الجمل القدر‏"‏‏.‏

حديث عبد الله بن عمرو‏:‏ ‏"‏قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا قتيبة، حدثنا رشدين بن سعد، عن الحسن بن ثوبان، عن هشام بن أبي رُقية، عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا عدوى ولا طيرةَ، ولا هَامة ولا حَسَد، والعين حق‏"‏‏.‏ تفرد به أحمد‏.‏

حديث عن علي‏:‏ روى الحافظ ابن عساكر من طريق خَيْثمة بن سليمان الحافظ‏:‏ حدثنا عبيد بن محمد الكَشَوري، حدثنا عبد الله بن عبد الله بن عبد ربه البصري، عن أبي رجاء، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي؛ أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فوافقه مغتما، فقال‏:‏ يا محمد، ما هذا الغم الذي أراه في وجهك‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏الحسن والحسين أصابتهما عين‏"‏‏.‏ قال‏:‏ صَدَق بالعين، فإن العين حق، أفلا عوذتهما بهؤلاء الكلمات‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏وما هن يا جبريل‏؟‏‏"‏‏.‏ قال‏:‏ قل‏:‏ اللهم ذا السلطان العظيم، ذا المن القديم، ذا الوجه الكريم، ولي الكلمات التامات، والدعوات المستجابات، عاف الحسن والحسين من أنفس الجن، وأعين الإنس‏.‏ فقالها النبي صلى الله عليه وسلم فقاما يلعبان بين يديه‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏عَوِّذوا أنفسكم ونساءكم وأولادكم بهذا التعويذ، فإنه لم يتعوذ المتعوذون بمثله‏"‏‏.‏

قال الخطيب البغدادي‏:‏ تفرد بروايته أبو رجاء محمد بن عبيد الله الحَيَطي من أهل تُسْتَر‏.‏ ذكره ابن عساكر في ترجمة ‏"‏طراد بن الحسين‏"‏، من تاريخه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ‏}‏ أي‏:‏ يزدرونه بأعينهم ويؤذونه بألسنتهم، ويقولون‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ‏}‏ أي‏:‏ لمجيئه بالقرآن، قال الله تعالى ‏{‏وَمَا هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ‏}‏

تفسير سورة الحاقة

وهي مكية‏.‏

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 12‏]‏

‏{‏الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ‏}‏

الحاقةُ من أسماء يوم القيامة؛ لأن فيها يَتَحقَّقُ الوَعدُ والوَعيد؛ ولهذا عَظَّم تعالى أمرَها فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ‏}‏‏؟‏ ثم ذكر تعالى إهلاكه الأمم المكذبين بها فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ‏}‏ وهي الصيحة التي أسكتتهم، والزلزلة التي أسكنتهم‏.‏ هكذا قال قتادة‏:‏ الطاغية الصيحة‏.‏ وهو اختيار ابن جرير‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ الطاغية الذنوب‏.‏ وكذا قال الربيع بن أنس، وابن زيد‏:‏ إنها الطغيان، وقرأ ابن زيد‏:‏ ‏{‏كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 11‏]‏‏.‏ وقال السُّدِّي‏:‏ ‏{‏فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ‏}‏ قال‏:‏ يعني‏:‏ عاقر الناقة‏.‏

‏{‏وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ‏}‏ أي‏:‏ باردة‏.‏ قال قتادة، والربيع، والسدي، والثوري‏:‏ ‏{‏عاتية‏}‏ أي‏:‏ شديدة الهبوب‏.‏ قال قتادة‏:‏ عتت عليهم حتى نَقَّبت عن أفئدتهم‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ ‏{‏صرصر‏}‏ باردة ‏{‏عاتية‏}‏ عتت عليهم بغير رحمة ولا بركة‏.‏ وقال علي وغيره‏:‏ عتت على الخزنة فخرجت بغير حساب‏.‏

‏{‏سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ‏}‏ أي‏:‏ سلطها عليهم ‏{‏سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا‏}‏ أي‏:‏ كوامل متتابعات مشائيم‏.‏

قال ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والثوري، وغير واحد ‏{‏حسوما‏}‏ متتابعات‏.‏

وعن عكرمة والربيع‏:‏ مشائيم عليهم، كقوله‏:‏ ‏{‏فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 16‏]‏ قال الربيع‏:‏ وكان أولها الجمعة‏.‏ وقال غيره الأربعاء‏.‏ ويقال‏:‏ إنها التي تسميها الناس الأعجاز؛ وكأن الناس أخذوا ذلك من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ‏}‏ وقيل‏:‏ لأنها تكون في عجز الشتاء، ويقال‏:‏ أيام العجوز؛ لأن عجوزًا من قوم عاد دخلت سَرَبا فقتلها الريح في اليوم الثامن‏.‏ حكاه البغوي والله أعلم‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏خاوية‏}‏ خربة‏.‏ وقال غيره‏:‏ بالية، أي‏:‏ جعلت الريح تضرب بأحدهم الأرض فيخر ميتًا على أم رأسه، فينشدخ رأسه وتبقى جثته هامدة كأنها قائمة النخلة إذا خرت بلا أغصان‏.‏

وقد ثبت في الصحيحين، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏نُصِرْتُ بالصَّبا، وأهلكَت عادٌ بالدَّبور‏"‏‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا محمد بن يحيى بن الضِّريس العبدي، حدثنا ابن فُضَيل، عن مسلم، عن مجاهد، عن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما فتح الله على عاد من الريح التي أهلكوا فيها إلا مثل موضع الخاتم، فَمرّت بأهل البادية فحملتهم ومواشيهم وأموالهم، فجعلتهم بين السماء والأرض‏.‏ فلما رأى ذلك أهل الحاضرة الريح وما فيها قالوا‏:‏ هذا عارض ممطرنا‏.‏ فألقت أهل البادية ومواشيهم على أهل الحاضرة‏"‏‏.‏

وقال الثوري عن ليث، عن مجاهد‏:‏ الريح لها جناحان وذنب‏.‏

‏{‏فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ‏}‏‏؟‏ أي‏:‏ هل تحس منهم من أحد من بقاياهم أنه ممن ينتسب إليهم‏؟‏ بل بادوا عن آخرهم ولم يجعل الله لهم خَلفَا‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ‏}‏ قُرئ بكسر القاف، أي‏:‏ ومن عنده في زمانه من أتباعه من كفار القبط‏.‏ وقرأ آخرون بفتحها، أي‏:‏ ومن قبله من الأمم المشبهين له‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏والمؤتفكات‏}‏ وهم المكذبون بالرسل‏.‏ ‏{‏بالخاطئة‏}‏ أي بالفعلة الخاطئة، وهي التكذيب بما أنزل الله‏.‏

قال الربيع‏:‏ ‏{‏بالخاطئة‏}‏ أي‏:‏ بالمعصية وقال مجاهد‏:‏ بالخطايا‏.‏

ولهذا قال‏:‏ تعالى ‏{‏فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ‏}‏ وهذا جنس، أي‏:‏ كُلّ كذّبَ رسول الله إليهم‏.‏ كما قال‏:‏ ‏{‏كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 14‏]‏‏.‏ ومن كذب رسول الله فقد كذب بالجميع، كما قال‏:‏ ‏{‏كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 105‏]‏، ‏{‏كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 123‏]‏‏.‏ ‏{‏كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 141‏]‏ وإنما جاء إلى كل أمة رسول واحد؛ ولهذا قال هاهنا‏:‏ ‏{‏فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً‏}‏ أي‏:‏ عظيمة شديدة أليمة‏.‏ قال مجاهد‏:‏ ‏{‏رابية‏}‏ شديدة‏.‏ وقال السدي‏:‏ مهلكة‏.‏

ثم قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ‏}‏ أي‏:‏ زاد على الحد بإذن الله وارتفع على الوجود‏.‏ وقال ابن عباس وغيره‏:‏ ‏{‏طَغَى الْمَاءُ‏}‏ كثر -وذلك بسبب دعوة نوح، عليه السلام، على قومه حين كذبوه وخالفوه، فعبدوا غير الله فاستجاب الله له وعَمّ أهل الأرض بالطوفان إلا من كان مع نوح في السفينة، فالناس كلهم من سلالة نوح وذريته‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا ابن حميد، حدثنا مِهْرَان، عن أبي سنان سعيد بن سنان، عن غير واحد، عن علي بن أبي طالب قال‏:‏ لم تنزل قطرة من ماء إلا بكيل على يدي ملك، فلما كان يوم نوح أذن للماء دون الخزان، فطغى الماء على الخزان فخرج، فذلك قول الله‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ‏}‏ ولم ينزل شيء من الريح إلا بكيل على يدي ملك، إلا يوم عاد، فإنه أذن لها دون الخزان فخرجت، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ‏}‏ عتت على الخزان‏.‏

ولهذا قال تعالى ممتنًا على الناس‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ‏}‏ وهي السفينة الجارية على وجه الماء، ‏{‏لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً‏}‏ عاد الضمير على الجنس لدلالة المعنى عليه، أي‏:‏ وأبقينا لكم من جنسها ما تركبون على تيار الماء في البحار، كما قال‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْه‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 12، 13‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 41، 42‏]‏‏.‏ وقال قتادة‏:‏ أبقى الله السفينة حتى أدركها أوائل هذه الأمة‏.‏ والأول أظهر؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ‏}‏ أي‏:‏ وتفهم هذه النعمة، وتذكرها أذن واعية‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ حافظة سامعة وقال قتادة‏:‏ ‏{‏أُذُنٌ وَاعِيَةٌ‏}‏ عقلت عن الله فانتفعت بما سمعت من كتاب الله، وقال الضحاك‏:‏ ‏{‏وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ‏}‏ سمعتها أذن ووعت‏.‏ أي‏:‏ من له سمع صحيح وعقل رجيح‏.‏ وهذا عام فيمن فهم، ووعى‏.‏

وقد قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو زُرْعة الدمشقي، حدثنا العباس بن الوليد بن صبح الدمشقي، حدثنا زيد بن يحيى، حدثنا علي بن حوشب، سمعت مكحولا يقول‏:‏ لما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ‏}‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏سألت ربي أن يجعلها أذُنَ عَلِيّ‏"‏‏.‏ ‏[‏قال مكحول‏]‏ فكان عَلِيّ يقول‏:‏ ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط فنسيته‏.‏

وهكذا رواه ابن جرير، عن علي بن سهل، عن الوليد بن مسلم، عن علي بن حوشب، عن مكحول به‏.‏ وهو حديث مرسل‏.‏

وقد قال ابن أبي حاتم أيضا‏:‏ حدثنا جعفر بن محمد بن عامر، حدثنا بشر بن آدم، حدثنا عبد الله بن الزبير أبو محمد -يعني والد أبي أحمد الزبيري- حدثني صالح بن الهيثم، سمعت بريدة الأسلمي يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي‏:‏ ‏"‏إني أمرت أن أدنيك ولا أقصيك، وأن أعلمك وأن تعي، وحُقّ لك أن تعي‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فنزلت هذه الآية ‏{‏وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ‏}‏

ورواه ابن جرير عن محمد بن خلف، عن بشر بن آدم، به ثم رواه ابن جرير من طريق آخر عن داود الأعمى، عن بُرَيدة، به‏.‏ ولا يصح أيضا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13 - 18‏]‏

‏{‏فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ‏}‏

يقول تعالى مخبرا عن أهوال يوم القيامة، وأول ذلك نفخة الفزع، ثم يعقبها نفخة الصعق حين يُصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم بعدها نفخة القيام لرب العالمين والبعث والنشور، وهي هذه النفخة‏.‏ وقد أكدها هاهنا بأنها واحدة لأن أمر الله لا يخالف ولا يمانع، ولا يحتاج إلى تكرار وتأكيد‏.‏

وقال الربيع‏:‏ هي النفخة الأخيرة‏.‏ والظاهر ما قلناه؛ ولهذا قال هاهنا‏:‏ ‏{‏وَحُمِلَتِ الأرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً‏}‏ أي‏:‏ فمدت مَدّ الأديم العُكَاظي، وتَبَدّلت الأرض غير الأرض، ‏{‏فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ‏}‏ أي‏:‏ قامت القيامة‏.‏ ‏{‏وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ‏}‏ قال سِماك، عن شيخ من بني أسد، عن علي قال‏:‏ تنشق السماء من المجرة‏.‏ رواه ابن أبي حاتم‏.‏

وقال ابن جريج‏:‏ هي كقوله‏:‏ ‏{‏وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 19‏]‏‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ منخرقة، والعرش بحذائها‏.‏

‏{‏وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا‏}‏ الملك‏:‏ اسم جنس، أي‏:‏ الملائكة على أرجاء السماء‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ على ما لم يَهِ منها، أي‏:‏ حافتها‏.‏ وكذا قال سعيد بن جبير، والأوزاعي‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ أطرافها‏.‏ وقال الحسن البصري‏:‏ أبوابها‏.‏ وقال الربيع بن أنس في قوله‏:‏ ‏{‏وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا‏}‏ يقول‏:‏ على ما استدق من السماء، ينظرون إلى أهل الأرض‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ‏}‏ أي‏:‏ يوم القيامة يحمل العرش ثمانية من الملائكة‏.‏ ويحتمل أن يكون المراد بهذا العرش العرش العظيم، أو‏:‏ العرش الذي يوضع في الأرض يوم القيامة لفصل القضاء، والله أعلم بالصواب‏.‏ وفي حديث عبد الله بن عَميرة، عن الأحنف بن قيس، عن العباس بن عبد المطلب، في ذكر حَمَلة العرش أنهم ثمانية أوعال‏.‏

وقال ابن أبى حاتم‏:‏ حدثنا أبو سعيد يحيى بن سعيد حدثنا زيد بن الحباب، حدثني أبو السمح البصري، حدثنا أبو قَبيل حُيَي بن هانئ‏:‏ أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول‏:‏ حملة العرش ثمانية، ما بين مُوق أحدهم إلى مؤخر عينه مسيرة مائة عام‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي قال‏:‏ كتب إليّ أحمد بن حفص بن عبد الله النيسابوري‏:‏ حدثني أبي، حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن موسى بن عقبة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أذنَ لي أن أحدثكم عن ملك من حَمَلة العرش‏:‏ بُعْدُ ما بين شحمة أذنه وعنقه بخفق الطير سبعمائة عام‏"‏‏.‏

وهذا إسناد جيد، رجاله ثقات‏.‏ وقد رواه أبو داود في كتاب ‏"‏السنة‏"‏ من سننه‏:‏ حدثنا أحمد بن حفص بن عبد الله، حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن موسى بن عقبة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش‏:‏ أن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام‏"‏‏.‏ هذا لفظ أبي داود‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا يحيى بن المغيرة، حدثنا جرير، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد بن جبير في قوله‏:‏ ‏{‏وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ‏}‏ قال‏:‏ ثمانية صفوف من الملائكة‏.‏ قال‏:‏ ورُوي عن الشعبي ‏[‏وعكرمة‏]‏ والضحاك‏.‏ وابن جُرَيْج، مثل ذلك‏.‏ وكذا روى السُّدِّي عن أبي مالك، عن ابن عباس‏:‏ ثمانية صفوف‏.‏ وكذا روى العوفي، عنه‏.‏

وقال الضحاك، عن ابن عباس‏:‏ الكَرُوبيّون ثمانية أجزاء، كل جنس منهم بقدر الإنس والجن والشياطين والملائكة‏.‏ وقوله‏:‏‏}‏ أي تعرضون على عالم السر والنجوى الذي لا يخفى عليه شيء من أموركم، بل هو عالم بالظواهر والسرائر والضمائر؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ‏}‏ وقد قال ابن أبي الدنيا‏:‏ أخبرنا إسحاق بن إسماعيل، أخبرنا سفيان بن عيينة، عن جعفر بن بُرْقان، عن ثابت بن الحجاج قال‏:‏ قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه‏:‏ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن تُوزَنوا، فإنه أخف عليكم في الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وَتَزَيَّنُوا للعرض الأكبر‏:‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ‏}‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا وَكِيع، حدثنا علي بن علي بن رفاعة، عن الحسن، عن أبي موسى قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات، فأما عرضتان فجدالٌ ومعاذيرُ، وأما الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي، فآخذ بيمينه وآخذ بشماله‏"‏‏.‏ ورواه ابن ماجة، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وَكِيع، به وقد رواه الترمذي عن أبي كُرَيْب عن وكيع عن علي بن علي، عن الحسن، عن أبي هريرة، به‏.‏

وقد روى ابنُ جرير عن مجاهد بن موسى، عن يزيد، بن سليم بن حيان، عن مروان الأصغر، عن أبي وائل، عن عبد الله قال‏:‏ يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات‏:‏ عرضتان، معاذير وخصومات، والعرضة الثالثة تطير الصحف في الأيدي‏.‏ ورواه سعيد بن أبي عَروبة، عن قتادة مرسلا مثله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19 - 24‏]‏

‏{‏فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ‏}‏

يخبر تعالى عن سعادة من أوتى كتابه يوم القيامة بيمينه، وفرحه بذلك، وأنه من شدة فرحه يقول لكل من لقيه‏:‏ ‏{‏هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ‏}‏ أي‏:‏ خذوا اقرؤوا كتابيه؛ لأنه يعلم أن الذي فيه خير وحسنات محضة؛ لأنه ممن بَدل الله سيئاته حسنات‏.‏

قال عبد الرحمن بن زيد‏:‏ معنى‏:‏ ‏{‏هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ‏}‏ أي‏:‏ ها اقرؤوا كتابيه، و‏"‏ؤم‏"‏ زائدة‏.‏ كذا قال، والظاهر أنها بمعنى‏:‏ هاكم‏.‏ وقد قال ابن أبى حاتم حدثنا‏:‏ بشر بن مطر الواسطي، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا عاصم الأحول، عن أبي عثمان قال‏:‏ المؤمن يعطى كتابه ‏[‏بيمينه‏]‏ في ستر من الله، فيقرأ سيئاته، فكلما قرأ سيئةً تغير لونه حتى يمر بحسناته فيقرؤها، فيرجع إليه لونه‏.‏ ثم ينظر فإذا سيئاته قد بدلت حسنات، قال‏:‏ فعند ذلك يقول‏:‏ ‏{‏هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ‏}‏

وحدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن الوليد بن سلمة، حدثنا روح بن عبادة، حدثنا موسى بن عبيدة أخبرني عبد الله بن عبد الله بن حنظلة -غسيل الملائكة- قال‏:‏ إن الله يَقِفُ عبده يوم القيامة فيبدي سيئاته في ظهر صحيفته، فيقول له‏:‏ أنت عملت هذا‏؟‏ فيقول‏:‏ نعم أي رب‏.‏ فيقول له إني لم أفضحك به، وإني قد غفرت لك‏.‏ فيقول عند ذلك‏:‏ ‏{‏هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ‏}‏ حين نجا من فَضْحه يوم القيامة‏.‏

وقد تقدم في الصحيح حديثُ ابن عمر حين سئل عن النجوى، فقال‏:‏ سمعت النبي الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏يُدْنِي اللهُ العبدَ يوم القيامة، فيُقَرِّره بذنوبه كلها، حتى إذا رأى أنه قد هلك قال الله‏:‏ إني سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم‏.‏ ثم يُعطَى كتابَ حسناته بيمينه، وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد‏:‏ ‏{‏هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 18‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ‏}‏ أي‏:‏ قد كنت موقنا في الدنيا أن هذا اليوم كائن لا محالة، كما قال‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 46‏]‏‏.‏

قال الله‏:‏ ‏{‏فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ‏}‏ أي‏:‏ مرضية، ‏{‏فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ‏}‏ أي‏:‏ رفيعة قصورها، حسان حورها، نعيمة دورها، دائم حبورها‏.‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا أبو عُتْبَةَ الحسن بن علي بن مسلم السَّكُوني، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن سعيد بن يوسف، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلام الأسود قال‏:‏ سمعتُ أبا أمامة قال‏:‏ سأل رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ هل يتزاور أهل الجنة‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم، إنه ليهبط أهل الدرجة العليا إلى أهل الدرجة السفلى، فيحيونهم ويسلمون عليهم، ولا يستطيع أهل الدرجة السفلى يصعدون إلى الأعلين، تقصر بهم أعمالهم‏"‏

وقد ثبت في الصحيح‏:‏ ‏"‏إن الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ‏}‏ قال البراء بن عازب‏:‏ أي قريبة، يتناولها أحدهم، وهو نائم على سريره‏.‏ وكذا قال غير واحد‏.‏

قال الطبراني‏:‏ ‏[‏حدثنا إسحاق بن إبراهيم الدبري‏]‏ عن عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن عطاء بن يسار، عن سلمان الفارسي قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا يدخل أحد الجنة إلا بجواز‏:‏‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم‏)‏ هذا كتاب من الله لفلان بن فلان، أدخلوه جنة عالية، قطوفها دانية‏"‏‏.‏ وكذا رواه الضياء في صفة الجنة من طريق سعدان بن سعيد، بن سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ يعطى المؤمن جَوَازا على الصراط‏:‏‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم‏)‏، هذا كتاب من الله العزيز الحكيم لفلان، أدخلوه جنة عالية، قطوفها دانية‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ‏}‏ أي‏:‏ يقال لهم ذلك؛ تفضلا عليهم، وامتنانا وإنعاما وإحسانا‏.‏ وإلا فقد ثبت في الصحيح، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏اعملوا وَسَدِّدوا وقَاربُوا واعلموا أن أحدا منكم لن يدخلَه عملُه الجنةَ‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ ولا أنت يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ولا أنا، إلا أن يَتَغَمَّدني الله برحمة منه وفضل‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25 - 37‏]‏

‏{‏وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ‏}‏

وهذا إخبار عن حال الأشقياء إذا أعطي أحدهم كتابه في العَرَصات بشماله، فحينئذ يندم غاية الندم، فيقول‏:‏ ‏{‏فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ‏}‏

قال الضحاك‏:‏ يعني موته لا حياة بعدها‏.‏ وكذا قال محمد بن كعب، والربيع، والسدي‏.‏

وقال قتادة‏:‏ تمنى الموت، ولم يكن شيء في الدنيا أكره إليه منه‏.‏

‏{‏مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ‏}‏ أي‏:‏ لم يدفع عني مالي ولا جاهي عذابَ الله وبَأسه، بل خَلَص الأمر إليَّ وحدي، فلا معين لي ولا مجير‏.‏ فعندها يقول الله، عز وجل‏:‏ ‏{‏خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ‏}‏

أي‏:‏ يأمر الزبانية أن تأخذه عنْفًا من المحشر، فَتَغُله، أي‏:‏ تضع الأغلال في عنقه، ثم تُورده إلى جهنم فتصليه إياها، أي‏:‏ تغمره فيها‏.‏

قال ابن أبي حاتم حدثنا‏:‏ أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد، عن عمرو بن قيس، عن المِنْهَال بن عمرو قال‏:‏ إذا قال الله، عز وجل ‏{‏خذوه‏}‏ ابتدره سبعون ألف ملك، إن الملك منهم ليقول هكذا، فيلقي سبعين ألفا في النار‏.‏

وروى ابن أبي الدنيا في ‏"‏الأهوال‏"‏‏:‏ أنه يبتدره أربعمائة ألف، ولا يبقى شيء إلا دَقَه، فيقول‏:‏ ما لي ولك‏؟‏ فيقول‏:‏ إن الرب عليك غضبان، فكل شيء غضبان عليك‏.‏

وقال الفضيل -هو ابن عياض-‏:‏ إذا قال الرب، عز وجل‏:‏ ‏{‏خُذُوهُ فَغُلُّوهُ‏}‏ ابتدره سبعون ألفا ملك، أيهم يجعل الغل في عنقه‏.‏ ‏{‏ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ‏}‏ أي‏:‏ اغمروه فيها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ‏}‏ قال كعب الأحبار‏:‏ كل حلقة منها قدر حديد الدنيا‏.‏

وقال العَوفي عن ابن عباس، وابن جرير‏:‏ بذراع الملك‏.‏ وقال ابن جريج، قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏فاسلكوه‏}‏ تدخل في استه ثم تخرج من فيه، ثم ينظمون فيها كما ينظم الجراد في العود حين يشوى‏.‏ وقال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ يسلك في دبره حتى يخرج من منخريه، حتى لا يقوم على رجليه‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا علي بن إسحاق، أخبرنا عبد الله، أخبرنا سعيد بن يزيد، عن أبي السمح، عن عيسى بن هلال الصَّدَفي، عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لو أن رَصَاصة مثل هذه -وأشار إلى ‏[‏مثل‏]‏ جُمْجُمة- أرسلت من السماء إلى الأرض، وهي مسيرة خمسمائة سنة، لبلغت الأرض قبل الليل، ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة، لسارت أربعين خريفًا الليلَ والنهارَ، قبل أن تبلغ قعرها أو أصلها‏"‏‏.‏

وأخرجه الترمذي، عن سُوَيْد بن نصر عن عبد الله بن المبارك، به قال‏:‏ هذا حديث حسن‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ‏}‏ أي‏:‏ لا يقوم بحق الله عليه من طاعته وعبادته، ولا ينفع خلقه ويؤدي حقهم؛ فإن لله على العباد أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئا، وللعباد بعضهم على بعض حقّ الإحسان والمعاونة على البر والتقوى؛ ولهذا أمر الله بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وقبض النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول‏:‏ ‏"‏الصلاة، وما ملكت أيمانكم‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ لا يَأْكُلُهُ إِلا الْخَاطِئُونَ‏}‏ أي‏:‏ ليس له اليوم من ينقذه من عذاب الله، لا حميم -وهو القريب- ولا شفيع يطاع، ولا طعام له هاهنا إلا من غسلين‏.‏

قال قتادة‏:‏ هو شر طعام أهل النار‏.‏ وقال الربيع، والضحاك‏:‏ هو شجرة في جهنم‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا منصور بن مزاحم، حدثنا أبو سعيد المؤدب، عن خُصَيف، عن مجاهد، عن ابن عباس قال‏:‏ ما أدري ما الغسلين، ولكني أظنه الزقوم‏.‏

وقال شَبِيب بن بشر، عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ الغسلين‏:‏ الدم والماء يسيل من لحومهم‏.‏ وقال علي بن أبي طلحة عنه‏:‏ الغسلين‏:‏ صديد أهل النار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38 - 43‏]‏

‏{‏فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏

يقول تعالى مُقسمًا لخلقه بما يشاهدونه من آياته في مخلوقاته الدالة على كماله في أسمائه وصفاته، وما غاب عنهم مما لا يشاهدونه من المغيبات عنهم‏:‏ إن القرآن كلامُه ووحيه وتنزيلُه على عبده ورسوله، الذي اصطفاه لتبليغ الرسالة وأداء الأمانة، فقال‏:‏ ‏{‏فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ‏}‏ يعني‏:‏ محمدًا، أضافه إليه على معنى التبليغ؛ لأن الرسول من شأنه أن يبلغ عن المرسل؛ ولهذا أضافه في سورة التكوير إلى الرسول الملكي‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ‏}‏ وهذا جبريل، عليه السلام‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ‏}‏ يعني‏:‏ محمدًا صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَلَقَدْ رَآهُ بِالأفُقِ الْمُبِينِ‏}‏ يعني‏:‏ أن محمدا رأى جبريل على صورته التي خلقه الله عليها، ‏{‏وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ‏}‏ أي‏:‏ بمتهم ‏{‏وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 19 -25‏]‏، وهكذا قال هاهنا‏:‏ ‏{‏وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ‏}‏، فأضافه تارة إلى قول الرسول الملكي، وتارة إلى الرسول البشري؛ لأن كلا منهما مبلغ عن الله ما استأمنه عليه من وحيه وكلامه؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا ابن المغيرة، حدثنا صفوان، حدثنا شُرَيح بن عبيد الله قال‏:‏ قال عمر بن الخطاب‏:‏ خرجت أتعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن أسلم، فوجدته قد سبقني إلى المسجد، فقمت خلفه، فاستفتح سورة الحاقة، فجعلت أعجب من تأليف القرآن، قال‏:‏ فقلت‏:‏ هذا والله شاعر كما قالت قريش‏.‏ قال‏:‏ فقرأ‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ‏}‏ قال‏:‏ فقلت‏:‏ كاهن‏.‏ قال فقرأ‏:‏ ‏{‏وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ‏}‏ إلى آخر السورة‏.‏ قال‏:‏ فوقع الإسلام في قلبي كل موقع‏.‏

فهذا من جملة الأسباب التي جعلها الله تعالى مؤثرة في هداية عمر بن الخطاب، كما أوردنا كيفية إسلامه في سيرته المفردة، ولله الحمد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44 - 52‏]‏

‏{‏وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا‏}‏ أي‏:‏ محمد صلى الله عليه وسلم لو كان كما يزعمون مفتريا علينا، فزاد في الرسالة أو نقص منها، أو قال شيئا من عنده فنسبه إلينا، وليس كذلك، لعاجلناه بالعقوبة‏.‏ ولهذا قال ‏{‏لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ‏}‏ قيل‏:‏ معناه لانتقمنا منه باليمين؛ لأنها أشد في البطش، وقيل‏:‏ لأخذنا منه بيمينه‏.‏

‏{‏ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ وهو نياط القلب، وهو العِرْقُ الذي القلب معلق فيه‏.‏ وكذا قال عكرمة، وسعيد بن جبير، والحكم، وقتادة، والضحاك، ومسلم البَطِين، وأبو صخر حُميد بن زياد‏.‏ وقال محمد بن كعب‏:‏ هو القلب ومَرَاقَّه وما يليه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ‏}‏ أي‏:‏ فما يقدر أحد منكم على أن يحجز بيننا وبينه إذا أردنا به شيئا من ذلك‏.‏ والمعنى في هذا بل هو صادق بار راشد؛ لأن الله، عز وجل، مقرر له ما يبلغه عنه، ومؤيد له بالمعجزات الباهرات والدلالات القاطعات‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ يعني‏:‏ القرآن كما قال‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 44‏]‏‏.‏

ثم قال ‏{‏وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ‏}‏ أي‏:‏ مع هذا البيان والوضوح، سيوجد منكم من يكذب بالقرآن‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ‏}‏ قال ابن جرير‏:‏ وإن التكذيب لحسرة على الكافرين يوم القيامة وحكاه عن قتادة بمثله‏.‏

وروى ابن أبي حاتم، من طريق السدي، عن أبي مالك‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ‏}‏ يقول‏:‏ لندامة‏.‏ ويحتمل عود الضمير على القرآن، أي‏:‏ وإن القرآن والإيمان به لحسرة في نفس الأمر على الكافرين، كما قال‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 200، 201‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 54‏]‏ ولهذا قال ها هنا‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ‏}‏ أي‏:‏ الخبر الصدق الحق الذي لا مرية فيه ولا شك ولا ريب‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ‏}‏ أي‏:‏ الذي أنزل هذا القرآن العظيم‏.‏ ‏[‏آخر تفسير سورة ‏"‏الحاقة‏"‏، ولله الحمد ‏]‏

تفسير سورة سأل سائل

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 7‏]‏

وهي مكية‏.‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلا إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا‏}‏

‏{‏سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ‏}‏ فيه تضمين دل عليه حرف ‏"‏الباء‏"‏، كأنه مُقَدر‏:‏ يستعجل سائل بعذاب واقع‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ‏}‏ أي‏:‏ وعذابه واقع لا محالة‏.‏

قال النسائي‏:‏ حدثنا بشر بن خالد، حدثنا أبو أسامة، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن المِنْهَال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ‏}‏ قال‏:‏ النضر بن الحارث بن كَلَدَة‏.‏

وقال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ‏}‏ قال‏:‏ ذلك سؤال الكفار عن عذاب الله وهو واقع‏.‏

وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد في قوله‏:‏ تعالى ‏{‏سَأَلَ سَائِلٌ‏}‏ دعا داع بعذاب واقع يقع في الآخرة، قال‏:‏ وهو قولهم‏:‏ ‏{‏اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 32‏]‏‏.‏

وقال ابن زيد وغيره‏:‏ ‏{‏سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ‏}‏ أي‏:‏ واد في جهنم، يسيل يوم القيامة بالعذاب‏.‏ وهذا القول ضعيف، بعيد عن المراد‏.‏ والصحيح الأول لدلالة السياق عليه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ‏}‏ أي‏:‏ مُرصد مُعَدّ للكافرين‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَاقِعٍ‏}‏ جاء ‏{‏لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ‏}‏ أي‏:‏ لا دافع له إذا أراد الله كونه؛ ولهذا قال ‏{‏مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ‏}‏ قال الثوري، عن الأعمش، عن رجل، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏ذِي الْمَعَارِجِ‏}‏ قال‏:‏ ذو الدرجات‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏ذِي الْمَعَارِجِ‏}‏ يعني‏:‏ العلو والفواضل‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏ذِي الْمَعَارِجِ‏}‏ معارج السماء‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ذي الفواضل والنعم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ‏}‏ قال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة‏:‏ ‏{‏تَعْرُجُ‏}‏ تصعد‏.‏

وأما الروح فقال أبو صالح‏:‏ هم خلق من خلق الله‏.‏ يشبهون الناس، وليسوا أناسا‏.‏

قلت‏:‏ ويحتمل أن يكون المراد به جبريل، ويكون من باب عطف الخاص على العام‏.‏ ويحتمل أن يكون اسم جنس لأرواح بني آدم، فإنها إذا قبضت يُصعد بها إلى السماء، كما دل عليه حديث البراء‏.‏ وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، من حديث المِنْهَال، عن زاذان، عن البراء مرفوعًا -الحديث بطوله في قبض الروح الطيبة- قال فيه‏:‏ ‏"‏فلا يزال يصعد بها من سماء إلى سماء حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة‏"‏‏.‏ والله أعلم بصحته، فقد تُكلم في بعض رواته، ولكنه مشهور، وله شاهد في حديث أبي هريرة فيما تقدم من رواية الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة، من طريق ابن أبي ذئب، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن سعيد بن يسار، عنه وهذا إسناد رجاله على شرط الجماعة، وقد بسطنا لفظه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 27‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ‏}‏ فيه أربعة أقوال‏:‏

أحدهما‏:‏ أن المراد بذلك مسافة ما بين العرش العظيم إلى أسفل السافلين، وهو قرار الأرض السابعة، وذلك مسيرة خمسين ألف سنة، هذا ارتفاع العرش عن المركز الذي في وسط الأرض السابعة‏.‏ وذلك اتساع العرش من قطر إلى قطر مسيرة خمسين ألف سنة، وأنه من ياقوتة حمراء، كما ذكره ابن أبي شيبة في كتاب صفة العرش‏.‏ وقد قال ابن أبي حاتم عند هذه الآية‏:‏

حدثنا أحمد بن سلمة، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا حَكَّام، عن عُمَر بن معروف، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عباس قوله‏:‏ ‏{‏فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ‏}‏ قال‏:‏ منتهى أمره من أسفل الأرضين إلى منتهى أمره من فوق السموات مقدار خمسين ألف سنة ويوم كان مقداره ألف سنة‏.‏ يعني بذلك‏:‏ تَنزل الأمر من السماء إلى الأرض، ومن الأرض إلى السماء في يوم واحد فذلك مقداره ألف سنة؛ لأن ما بين السماء والأرض مقدار مسيرة خمسمائة سنة‏.‏

وقد رواه ابن جرير عن ابن حميد، عن حَكَّام بن سلم، عن عُمَر بن معروف، عن ليث، عن مجاهد قوله، لم يذكر ابن عباس‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطُّنافِسيّ، حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا نوح المؤدب، عن عبد الوهاب بن مجاهد، عن أبيه، عن ابن عباس قال‏:‏ غلظ كل أرض خمسمائة عام، وبين كل أرض إلى أرض خمسمائة عام، فذلك سبعة آلاف عام‏.‏ وغلظ كل سماءخمسمائة عام، وبين السماء إلى السماء خمسمائة عام، فذلك أربعة عشر ألف عام، وبين السماء السابعة وبين العرش مسيرة ستة وثلاثين ألف عام، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ‏}‏

القول الثاني‏:‏ أن المراد بذلك مدة بقاء الدنيا منذ خلق الله هذا العالم إلى قيام الساعة، قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو زُرْعَة، أخبرنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا ابن أبي زائدة، عن ابن جريج، عن مجاهد‏:‏ ‏{‏فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ‏}‏ قال‏:‏ الدنيا عمرها خمسون ألف سنة‏.‏ وذلك عمرها يوم سماها الله تعالى يوم، ‏{‏تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ‏}‏ قال‏:‏ اليوم‏:‏ الدنيا‏.‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ أخبرنا مَعْمَر، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد -وعن الحكم بن أبان، عن عكرمة‏:‏ ‏{‏فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ‏}‏ قال‏:‏ الدنيا من أولها إلى آخرها مقدار خمسين ألف سنة، لا يدري أحدٌ كم مضى، ولا كم بقي إلا الله، عز وجل‏.‏

القول الثالث‏:‏ أنه اليوم الفاصل بين الدنيا والآخرة، وهو قول غريب جدًا‏.‏ قال ابن أبي حاتم‏:‏

حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان، حدثنا بُهلول بن المورق حدثنا موسى بن عبيدة، أخبرني محمد بن كعب‏:‏ ‏{‏فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ‏}‏ قال‏:‏ هو يوم الفصل بين الدنيا والآخرة‏.‏

القول الرابع‏:‏ أن المراد بذلك يوم القيامة، قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أحمد بن سنان الواسطي، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن إسرائيل، عن سِمَاك، عن عكرمة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ‏}‏ قال‏:‏ يوم القيامة‏.‏ هذا وإسناده صحيح‏.‏ ورواه الثوري عن سماك بن حرب، عن عكرمة ‏{‏فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ‏}‏ يوم القيامة‏.‏ وكذا قال الضحاك، وابن زيد‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ‏}‏ قال‏:‏ فهذا يوم القيامة، جعله الله تعالى على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة‏.‏ وقد وردت أحاديث في معنى ذلك، قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا الحسن بن موسى، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثنا دَرّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد قال‏:‏ قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ‏}‏ ما أطول هذا اليوم‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏والذي نفسي بيده، إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا‏"‏‏.‏ ورواه ابن جرير، عن يونس، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن دراج، به إلا أن دَرّاجا وشيخه ضعيفان، والله أعلم‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أبي عمرو الغُداني قال‏:‏ كنت عند أبي هُرَيرة فمر رجل من بني عامر بن صعصعة، فقيل له‏:‏ هذا أكثر عامري مالا‏.‏ فقال أبو هريرة‏:‏ ردوه فقال‏:‏ نبئت أنك ذو مال كثير‏؟‏ فقال العامري‏:‏ أي والله، إن لي لمائة حُمْرًا ومائة أدمًا، حتى عد من ألوان الإبل، وأفنان الرقيق، ورباط الخيل فقال أبو هريرة‏:‏ إياك وأخفاف الإبل وأظلافَ النعم -يُرَدّد ذلك عليه، حتى جعل لونُ العامري يتغير- فقال‏:‏ ما ذاك يا أبا هُرَيرة‏؟‏ قال‏:‏ سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏من كانت له إبلٌ لا يعطي حقها في نجدتها ورِسْلها -قلنا يا رسول الله‏:‏ ما نجدتُها ورِسْلُها‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏في عُسرها ويسرها- ‏"‏ فإنها تأتي يوم القيامة كأغذّ ما كانت وأكثره وأسمنه وآشره، حتى يبطح لها بقاع قَرقَر، فتطؤه بأخفافها، فإذا جاوزته أخراها أعيدت عليه أولاها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين الناس فيرى سبيله، وإذا كانت له بقر لا يعطي حقها في نجدتها ورسلها، فإنها تأتي يوم القيامة كأغذ ما كانت وأكثره وأسمنه وآشره ثم يبطح لها بقاع قَرقَر فتطؤه كل ذات ظلف بظلفها، وتنطحه كل ذات قرن بقرنها، إذا جاوزته أخراها أعيدت عليه أولاها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين الناس فيرى سبيله‏.‏ وإذا كانت له غنم لا يعطي حقها في نجدتها ورسلها، فإنها تأتي يوم القيامة كأغذ ما كانت وأسمنه وآشره، حتى يبطح لها بقاع قَرقَر، فتطؤه كل ذات ظلف بظلفها وتنطحه كل ذات قرن بقرنها، ليس فيها عَقصاء ولا عضباء، إذا جاوزته أخراها أعيدت عليه أولاها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين الناس، فيرى سبيله‏"‏‏.‏ قال العامري‏:‏ وما حق الإبل يا أبا هريرة‏؟‏ قال‏:‏ أن تعطي الكريمة، وتمنح الغَزيرَة، وتفقر الظهر، وتَسقيَ اللبن وتُطرقَ الفحل‏.‏

وقد رواه أبو داود من حديث شعبة، والنسائي من حديث سعيد بن أبي عَرُوبة، كلاهما عن قتادة، به‏.‏

طريق أخرى لهذا الحديث‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو كامل، عن سُهَيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما من صاحب كنز لا يؤدي حقه إلا جعل صفائح يحمى عليها في نار جهنم، فتكوى بها بجهته وجنبه وظهره، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار‏"‏‏.‏ وذكر بقية الحديث في الغنم والإبل كما تقدم، وفيه‏:‏ ‏"‏الخيل الثلاثة؛ لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر‏"‏ إلى آخره‏.‏

ورواه مسلم في صحيحه بتمامه منفردًا به دون البخاري، من حديث سُهَيل عن أبيه، عن أبي هُرَيرة وموضع استقصاء طرقه وألفاظه في كتاب الزكاة في ‏"‏الأحكام‏"‏، والغرض من إيراده هاهنا قوله‏:‏ ‏"‏حتى يحكم الله بين عباده، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة‏"‏‏.‏

وقد روى ابن جرير عن يعقوب عن ابن عُلَيَّة وعبد الوهاب، عن أيوب، عن ابن أبي مُلَيْكة قال‏:‏ سأل رجل ابن عباس عن قوله‏:‏ ‏{‏فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ‏}‏ قال‏:‏ فاتهمه، فقيل له فيه، فقال‏:‏ ما يوم كان مقداره خمسين ألف سنة‏؟‏ فقال‏:‏ إنما سألتك لتحدثني‏.‏ قال‏:‏ هما يومان ذكرهما الله، الله أعلم بهما، وأكره أن أقول في كتاب الله بما لا أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلا‏}‏ أي‏:‏ اصبر يا محمد على تكذيب قومك لك، واستعجالهم العذاب استبعادًا لوقوعه، كقوله‏:‏ ‏{‏يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 18‏]‏ قال‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا‏}‏ أي‏:‏ وقوع العذاب وقيام الساعة يراه الكفرة بعيد الوقوع، بمعنى مستحيل الوقوع، ‏{‏وَنَرَاهُ قَرِيبًا‏}‏ أي‏:‏ المؤمنون يعتقدون كونه قريبا، وإن كان له أمد لا يعلمه إلا الله، عز وجل، لكن كل ما هو آت فهو قريب وواقع لا محالة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8 - 10‏]‏

‏{‏يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ كَلَّا إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَةً لِلشَّوَى تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعَى‏}‏

يقول تعالى‏:‏ العذابُ واقع بالكافرين ‏{‏يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ‏}‏ قال ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، وسعيد بن جبير، وعكرمة، والسدي، وغير واحد، كدرْديّ الزيت، ‏{‏وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ‏}‏ أي‏:‏ كالصوف المنفوش، قاله مجاهد، وقتادة، والسدي‏.‏ وهذه الآية كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ‏}‏ ‏[‏القارعة‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا يُبَصَّرُونَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ لا يسأل القريب عن حاله، وهو يراه في أسوأ الأحوال، فتشغله نفسه عن غيره‏.‏

قال العوفي عن ابن عباس‏:‏ يعرف بعضهم بعضا، ويتعارفون بينهم، ثم يفر بعضهم من بعض

بعد ذلك، يقول‏:‏ ‏{‏لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ‏}‏ وهذه الآية الكريمة كقوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 33‏]‏‏.‏ وكقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 18‏]‏‏.‏ وكقوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 101‏]‏‏.‏ وكقوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 34 -37‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ كَلا‏}‏ أي‏:‏ لا يقبل منه فداء ولو جاء بأهل الأرض، وبأعز ما يجده من المال، ولو بملء الأرض ذهبًا، أو من ولده الذي كان في الدنيا حُشَاشة كبده، يود يوم القيامة إذا رأى الأهوال أن يفتدي من عذاب الله به، ولا يقبل منه‏.‏ قال مجاهد والسدي‏:‏ ‏{‏فَصِيلَتِهِ‏}‏ قبيلته وعشيرته‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ فَخذه الذي هو منهم‏.‏ وقال أشهب، عن مالك‏:‏ ‏{‏فَصِيلَتِهِ‏}‏ أمه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهَا لَظَى‏}‏ يصف النار وشدة حرها ‏{‏نزاعَةً لِلشَّوَى‏}‏ قال ابن عباس، ومجاهد‏:‏ جلدة الرأس‏.‏ وقال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏نزاعَةً لِلشَّوَى‏}‏ الجلود والهام‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ما دون العظم من اللحم‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ العصب‏.‏ والعقب‏.‏ وقال أبو صالح‏:‏ ‏{‏نزاعَةً لِلشَّوَى‏}‏ يعني‏:‏ أطراف اليدين والرجلين‏.‏ وقال أيضا‏:‏ نزاعة لحم الساقين‏.‏ وقال الحسن البصري، وثابت البناني‏:‏ ‏{‏نزاعَةً لِلشَّوَى‏}‏ أي‏:‏ مكارم وجهه‏.‏ وقال الحسن أيضا‏:‏ تحرق كل شيء فيه، ويبقى فؤاده يصيح‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ‏{‏نزاعَةً لِلشَّوَى‏}‏ أي‏:‏ نزاعة لهامته ومكارم وَجهه وخَلْقَه وأطرافه‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ تبري اللحم والجلد عن العظم، حتى لا تترك منه شيئًا‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ الشوى‏:‏ الآراب العظام‏.‏ فقوله‏:‏ نزاعة، قال‏:‏ تقطع عظامهم، ثم يُجَدد خلقهم وتبدل جلودهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعَى‏}‏ أي‏:‏ تدعو النار إليها أبناءها الذين خلقهم الله لها، وقدر لهم أنهم في الدار الدنيا يعملون عملها، فتدعوهم يوم القيامة بلسان طَلق ذَلِق، ثم تلتقطهم من بين أهل المحشر كما يلتقط الطير الحب‏.‏ وذلك أنهم -كما قال الله، عز وجل- كانوا ممن ‏{‏أَدْبَرَ وَتَوَلَّى‏}‏ أي‏:‏ كذب بقلبه، وترك العمل بجوارحه ‏{‏وَجَمَعَ فَأَوْعَى‏}‏ أي‏:‏ جمع المال بعضه على بعض فأوعاه، أي‏:‏ أوكاه ومنع حق الله منه من الواجب عليه في النفقات ومن إخراج الزكاة‏.‏ وقد ورد في الحديث‏:‏ ‏"‏ولا تُوعي فَيُوعي الله عليك‏"‏ وكان عبد الله بن عُكيم لا يربط له كيسا ويقول‏:‏ سمعت الله يقول‏:‏ ‏{‏وَجَمَعَ فَأَوْعَى‏}‏

وقال الحسن البصري‏:‏ يا ابن آدم، سمعتَ وعيدَ الله ثم أوعيتَ الدنيا‏.‏

وقال قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَجَمَعَ فَأَوْعَى‏}‏ قال‏:‏ كان جَمُوعًا قمُومًا للخَبيث‏.‏